كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيمانًا راسخًا.
والذي يهمنا هنا من هذه الشهادة هو أن سر الحياة ونشأتها غيب من غيب الله، كنشأة الكون وحركته؛ وأن ليس لدى البشر عن ذلك إلا الاحتمالات. وصدق الله العظيم: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم}.
3- ونخطو خطوة واسعة لنصل إلى الإنسان.. إن الدفقة الواحدة من ماء الرجل تحتوي على نحو ستين مليونًا من الحيوانات المنوية.. كلها تدخل في سباق لتلحق بالبويضة في رحم المرآة.. ولا يعلم أحد من الذي يسبق! فهو غيب، أو هو قدر غيبي لا علم للبشر به- بما فيهم الرجل والمرأة صاحبا الدور في هذا الأمر!- ثم يصل السابق من بين ستين مليونًا! ويلتحم مع البويضة ليكوّنا معًا خلية واحدة ملقحة هي التي ينتج منها الجنين.
ولما كانت كل كروموسومات البويضة مؤنثة، بينما كروموسومات الحيوان المنوي بعضها مذكر وبعضها مؤنث؛ فإن غلبة عدد كروموسومات التذكير أو كروموسومات التأنيث في الحيوان المنوي الذي يلتحم بالبويضة، هو الذي يقرر مصير الجنين- ذكرًا أو أنثى- وهذا خاضع لقدر الله الغيبي لا علم به ولا دخل للبشر- بما فيهم أبوا الجنين أنفسهما: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8- 9] {لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثا ويجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير} [الشورى: 49- 50] {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون} [الزمر: 6].
هذا هو الغيب الذي يقف أمامه العلم البشري؛ ويواجهه في القرن العشرين.. بينما الذين يعيشون على فتات القرون الماضية يزعمون أن الغيبية تنافي العلمية. وأن المجتمع الذي يريد أن يعيش بعقلية علمية ينبغي له أن يتخلص من العقلية الغيبية! ذلك بينما العلم البشري ذاته.. علم القرن العشرين.. يقول: إن كل ما يصل إليه من النتائج هو الاحتمالات! وإن الحقيقة المستيقنة الوحيدة هي أن هنالك غيبًا لا شك فيه!
على أننا قبل أن نغادر هذه الوقفة المجملة أمام حقيقة الغيب، ينبغي أن نقول كلمة عن طبيعة الغيب في العقيدة الإسلامية، وفي التصور الإسلامي، وفي العقلية الإسلامية.
إن القرآن الكريم- وهو المصدر الأساسي للعقيدة الإسلامية التي تنشيء التصور الإسلامي والعقلية الإسلامية- يقرر أن هناك عالمًا للغيب وعالمًا للشهادة. فليس كل ما يحيط بالإنسان غيبًا، وليس كل ما يتعامل معه من قوى الكون مجهولًا..
إن هنالك سننًا ثابتة لهذا الكون؛ يملك الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض. وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية؛ وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة، وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها..
وإلى جانب هذه السنن الثابتة- في عمومها- مشيئة الله الطليقة؛ لا تقيدها هذه السنن وإن كانت من عملها. وهناك قدر الله الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها. فهي ليست آلية بحتة، فالقدر هو المسيطر على كل حركة فيها؛ وإن جرت وفق السنة التي أودعها الله إياها.
وهذا القدَر الذي يُنفذ هذه السنن في كل مرة تنفذ فيها غيب لا يعلمه أحد علم يقين؛ وأقصى ما يصل إليه الناس هو الظنون والاحتمالات.. وهذا ما يعترف به العلم البشري أيضًا..
وإن ملايين الملايين من العمليات لتتم في كيان الإنسان في اللحظة الواحدة؛ وكلها غيب بالقياس إليه، وهي تجري في كيانه! ومثلها ملايين ملايين العمليات التي تتم في الكون من حوله؛ وهو لا يعلمها!
وإن الغيب ليحيط بماضيه وماضي الكون. وحاضره وحاضر الكون. ومستقبله ومستقبل الكون.. وذلك مع وجود السنن الثابتة، التي يعرف بعضها، وينتفع بها انتفاعًا علميًا منظمًا في النهوض بعبء الخلافة.
وإن الإنسان ليجيء إلى هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد قدومه! وإنه ليذهب عن هذا العالم على غير رغبة منه ولا علم بموعد رحيله!.. وكذلك كل شيء حي.. ومهما تعلم ومهما عرف، فإن هذا لن يغير من هذا الواقع شيئًا!
إن العقلية الإسلامية عقلية غيبية علمية لأن الغيبية هي العلمية بشهادة العلم والواقع.. أما التنكر للغيب فهو الجهلية التي يتعالم أصحابها وهم بهذه الجهالة!
وإن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله؛ وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابته.. فلا يفوت المسلم العلم البشري في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيبًا لا يُطلع الله عليه أحدًا، إلا من شاء بالقدر الذي يشاء.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الفرد فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدود الذي تدركه الحواس- أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله، ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود؛ وفي إحساسه بالكون، وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الآثر في حياته على الأرض. فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه؛ ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود؛ وأن وراء الكون.. ظاهره وخافيه.. حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار، ولا تحيط بها العقول.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان- كجماعة الماديين في كل زمان- يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا تقدمية! وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها. فجعل صفتهم المميزة هي صفة: {الذين يؤمنون بالغيب}.. والحمد لله على نعمائه؛ والنكسة للمنتكسين والمرتكسين.
والذين يتحدثون عن الغيبية والعلمية يتحدثون كذلك عن الحتمية التاريخية كأن كل المستقبل مستيقن! والعلم في هذا الزمان يقول: إن هناك احتمالات وليست هنالك حتميات!
ولقد كان ماركس من المتنبئين بالحتميات! ولكن أين نبوءات ماركس اليوم؟
لقد تنبأ بحتمية قيام الشيوعية في انجلترا، نتيجة بلوغها قمة الرقي الصناعي ومن ثم قمة الرأسمالية في جانب والفقر العمالي في جانب آخر.. فإذا الشيوعية تقوم في أكثر الشعوب تخلفًا صناعيًا.. في روسيا والصين وما إليها.. ولا تقوم قط في البلاد الصناعية الراقية!
ولقد تنبأ لينين وبعده ستالين بحتمية الحرب بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي. وها هو ذا خليفتهما خروشوف يحمل راية التعايش السلمي!
ولا نمضي طويلًا مع هذه الحتميات التنبؤية! فهي لا تستحق جدية المناقشة!
إن هنالك حقيقة واحدة مستيقنة هي حقيقة الغيب، وكل ما عداها احتمالات. وإن هنالك حتمية واحدة هي وقوع ما يقضي به الله ويجري به قدره. وقدر الله غيب لا يعلمه إلا هو. وإن هنالك- مع هذا وذلك- سننًا للكون ثابتة، يملك الإنسان أن يتعرف إليها، ويستعين بها في خلافة الأرض، مع ترك الباب مفتوحًا لقدر الله النافذ؛ وغيب الله المجهول.. وهذا قوام الأمر كله.. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ومن علم الله الشامل بمفاتح الغيب، وبما يجري في جنبات الكون، ينتقل السياق إلى مجال من مجالات هذا العلم الشامل، في ذوات البشر، ومجال كذلك من مجالات الهيمنة الإلهية، بعد العلم المحيط:
{وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}..
بضع كلمات أخرى، كالتي رسمت آفاق الغيب وآماده وأغواره، وأشارت إلى مدى العلم الإلهي وشموله في الآية السابقة.. بضع كلمات أخرى تضم حياة البشرية كلها في قبضة الله سبحانه وفي علمه وقدره وتدبيره.. صحوهم ومنامهم.. موتهم وبعثهم. حشرهم وحسابهم.. ولكن على طريقة القرآن المعجزة في الإحياء والتشخيص، وفي لمس المشاعر واستجاشتها، مع كل صورة وكل مشهد وكل حركة يرسمها تعبيره العجيب.
{وهو الذي يتوفاكم بالليل}..
فهي الوفاة إذن حين يأخذهم النعاس؛ هي الوفاة في صورة من صورها بما يعتري الحواس من غفلة، وما يعتري الحس من سهوة، وما يعتري العقل من سكون، وما يعتري الوعي من سبات- أي انقطاع- وهو السر الذي لا يعلم البشر كيف يحدث؛ وإن عرفوا ظواهره وآثاره؛ وهو الغيب في صورة من صوره الكثيرة المحيطة بالإنسان.. وهؤلاء هم البشر مجردين من كل حول وطول- حتى من الوعي- ها هم أولاء في سبات وانقطاع عن الحياة. ها هم أولاء في قبضة الله- كما هم دائمًا في الحقيقة- لا يردهم إلى الصحو والحياة الكاملة إلا إرادة الله.. فما أضعف البشر في قبضة الله!
{ويعلم ما جرحتم بالنهار}..
فما تتحرك جوارحهم لأخذ أو ترك، إلا وعند الله علم بما كسبت من خير أو شر.. وهؤلاء هم البشر مراقبين في الحركات والسكنات؛ لا يند عن علم الله منهم شيء، مما تكسبه جوارحهم بعد الصحو بالنهار!
{ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى}..
أي يوقظكم في النهار من سباتكم وانقطاعكم؛ لتتم آجالكم التي قضاها الله.. وهؤلاء هم البشر داخل المجال الذي قدره الله. لا مهرب لهم منه، ولا منتهى لهم سواه!
{ثم إليه مرجعكم}..
فهي الأوبة إلى الراعي بعد انقضاء المراح!
{ثم ينبئكم بما كنتم تعملون}..
فهو عرض السجل الذي وعى ما كان، وهو العدل الدقيق الذي لا يظلم في الجزاء.
وهكذا تشمل الأية الواحدة، ذات الكلمات المعدودة، ذلك الشريط الحافل بالصور والمشاهد، والمقررات والحقائق، والإيحاءات والظلال.. فمن ذا الذي يملك أن يصنع ذلك؟ وكيف تكون الآيات الخوارق، إن لم تكن هي هذه؟ التي يغفل عنها المكذبون، ويطلبون الخوارق المادية وما يتبعها من العذاب الأليم!
ولمسة أخرى من حقيقة الألوهية.. لمسة القوة القاهرة فوق العباد. والرقابة الدائمة التي لا تغفل. والقدر الجاري الذي لا يتقدم ولا يتأخر، والمصير المحتوم الذي لا مفر منه ولا مهرب. والحساب الأخير الذي لا يني ولا يمهل.. وكله من الغيب الذي يلف البشر ويحيط بالناس: {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}..
{وهو القاهر فوق عباده}..
فهو صاحب السلطان القاهر؛ وهم تحت سيطرته وقهره. هم ضعاف في قبضة هذا السلطان؛ لا قوة لهم ولا ناصر. هم عباد. والقهر فوقهم. وهم خاضعون له مقهورون..
وهذه هي العبودية المطلقة للألوهية القاهرة.. وهذه هي الحقيقة التي ينطق بها واقع الناس- مهما ترك لهم من الحرية ليتصرفوا، ومن العلم ليعرفوا، ومن القدرة ليقوموا بالخلافة- إن كل نفس من أنفاسهم بقدر؛ وكل حركة في كيانهم خاضعة لسلطان الله بما أودعه في كيانهم من ناموس لا يملكون أن يخالفوه.
وإن كان هذا الناموس يجري في كل مرة بقدر خاص حتى في النفس والحركة!
{ويرسل عليكم حفظة}..
لا يذكر النص هنا ما نوعهم.. وفي مواضع أخرى أنهم ملائكة يحصون على كل إنسان كل ما يصدر عنه.. أما هنا فالمقصود الظاهر هو إلقاء ظل الرقابة المباشرة على كل نفس. ظل الشعور بأن النفس غير منفردة لحظة واحدة، وغير متروكة لذاتها لحظة واحدة. فهناك حفيظ عليها رقيب يحصي كل حركة وكل نأمة؛ ويحفظ ما يصدر عنها لا يند عنه شيء.. وهذا التصور كفيل بأن ينتفض له الكيان البشري؛ وتستيقظ فيه كل خالجة وكل جارحة..
{حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}..
الظل نفسه، في صورة أخرى.. فكل نفس معدودة الأنفاس، متروكة لأجل لا تعلمه- فهو بالنسبة لها غيب لا سبيل إلى كشفه- بينما هو مرسوم محدد في علم الله، لا يتقدم ولا يتأخر. وكل نفس موكل بأنفاسها وأجلها حفيظ قريب مباشر حاضر، لا يغفو ولا يغفل ولا يهمل- فهو حفيظ من الحفظة- وهو رسول من الملائكة- فإذا جاءت اللحظة المرسومة الموعودة- والنفس غافلة مشغولة- أدى الحفيظ مهمته، وقام الرسول برسالته.. وهذا التصور كفيل كذلك بأن يرتعش له الكيان البشري؛ وهو يحس بالقدر الغيبي يحيط به؛ ويعرف أنه في كل لحظة قد يُقبض، وفي كل نفس قد يحين الأجل المحتوم.
{ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق}..
مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة.. مولاهم الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء.. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط.. ثم ردهم إليه عندما شاء؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب: {ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}..
فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطئ في الحكم، ولا يمهل في الجزاء.. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري. فهو ليس متروكًا ولو إلى مهلة في الحساب!